الجمعة، 18 يونيو 2010

إلا المجاهرين

عن أبي هريرة: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول : يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا ، وقد بات يستره ربه ، ويصبح يكشف ستر الله عنه".

هناك حقيقتان يمكن ان نستخرجهما من الحديث الشريف، الأولى: أن الجهر بالمعصية أخطر من فعل المعصية ذاتها من الناحية الشرعية وأن من يكشف ستر الله عنه في معصيته ويجاهر بها هو شخص لا يستحق العفو والمغفرة، لأن المؤمن قد يعصي ربه ولكنه يسارع إلى طلب العفو والمغفرة كما في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"، ولكنه عندما لا يستغفر بل ويفخر بما فعله من المعاصي فهو لا يسحق العفو كما قلنا.
الحقية الثانية هي خطورة الجهر بالمعصية من الناحية الاجتماعية، فالجهر هنا ليس مجرد ارتكاب لمعصية قد لا تعني سوى مرتكبها، ولكنه هنا يدخل في جانب التحريض، وهذا يهدد كيان المجتمع.

وفي رأيي أن الحدود قد وضعت لمنع الجهر بالمعاصي والجرائم، فباستثناء السرقة والقتل وقذف المحصنات الذين يعدون اعتداء على حقوق الغير، نجد أن بقية الجرائم التي تستوجب الحد مثل الزنا وشرب الخمر ليس فيها اعتداء مباشرا على الآخرين، ولكنها تعتبر جريمة تستوجب الحد لأنها اعتداء على قيم المجتمع، فيمكن لشخص أن يشرب الخمر سرا دون أن يعلم أحد، وفي هذه الحالة لن يطبق عليه أي حد، كذلك جريمة الزنا لا تثبت إلا باعتراف الزاني أو بوجود أربعة شهود على الواقعة وهذا أمر يصعب حدوثه بدون مجاهرة، بل إن هناك الكثير من الاحاديث التي تدعو للستر على الشخص مرتكب المعصية وعدم فضحه (وإن كان زانيا)، ففي ستره حفظ لمشاعر واخلاق الآخرين، وكذلك فهي فرصه له ليتوب.

عن نعيم بن هزال: أن ماعزا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده أربع مرات فأمر برجمه وقال لهزال لو سترته بثوبك كان خيرا لك – حديث صحيح

عن عبد الله بن مسعود: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني عالجت امرأة من أقصى المدينة ، فأصبت منها ما دون أن أمسها ، فأنا هذا ، فأقم علي ما شئت ! فقال عمر : قد ستر الله عليك لو سترت على نفسك ، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ، فانطلق الرجل فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا ، فدعاه ، فتلا عليه : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } إلى آخر الآية ، فقال رجل من القوم : يا رسول الله ! أله خاصة أم للناس كافة : فقال : للناس كافة – سنن أبي داوود

عن عقبة بن عامر أنه أتى مسلمة بن مخلد وكان بينه وبين البواب شيء فسمع صوته فأذن له فقال إني لم آتك زائرا جئتك لحاجة أتذكر يوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من علم من أخيه سيئة فسترها ستر الله عليه يوم القيامة قال : نعم قال لهذا جئت – إسناده صحيح

وقد يظن البعض أنها دعوة للنفاق الاجتماعي بأن يرتكب الناس المعاصي في السر ثم يخرجون إلى المجتمع ببراءة، ولكن هذا غير صحيح، فالستر بداهة مرتبط بالنصيحة، والغاية من الستر هو ترك الباب مفتوحا للتوبة، ولكن أن يجاهر الفرد بذنبه فهذا معناه أنه لا يرغب في التوبة بل ويفخر بذنبه، إضافة أن هذا يشكل اعتداء على حقوق المجتمع وقيمه وثوابته وهو ما لا يسمح به أي نظام في العالم، وقد قال تعالى: " إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (المائدة: 34).

هناك نقطة مهمة جدا وهي أن الستر يكون في الذنوب الفردية التي ليس فيها تعد على حقوق الآخرين، فلا يجوز مثلا التستر على سارق أو قاتل، بل يمكن القول إن عقوبة الحرابة قد غلظت لأن فيها تحد ومجاهرة، وقد قال تعالى:" إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (المائدة: 33)، ونلاحظ بالطبع تشديد الحرف الأوسط في الكلمات :(يقتلوا- يصلبوا- تقطع) وهي في اللغة تعني التغليظ والتشديد.

وقد ذهب البعض إلى ابعد من ذلك بأن قالوا أن قتل المرتد يكون عندما يجهر بردته ويعلن عدائه للإسلام فقط، لأنه في هذه الحالة يكون قد ارتكب جريمة الخيانة العظمى، وأنه في حالة عدم الجهر بردته فلا حد عليه.

والحق أن الإسلام ليس به مراقبة على سلوك الأفراد ومحاسبتهم إلا فيما يضر بالمجتمع، فلا يوجد من يسجل عليك عدد مرات صلاتك في المسجد بل إذا كنت تاركا للصلاة فربما لن يعرف أحد، ولا يجد من يراقب عليك صيامك، ولكن في المقابل يجب أن يتم التعامل مع المجاهرين بالافطار لأنهم يتحدون ثوابت المجتمع ويشكلون تهديدا لثقافته واخلاقياته وهذا هو معيار الحكم في رأيي، فأي تصرف يهاجم أو يتحدى الثوابت الإسلامية يجب أن يتم التعامل معه من قبل الدولة الإسلامية.

ولهذا قد شرعت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان ثواب العمل بها عظيما وثواب تركها عظيما أيضا، والآيات والأحاديث الواردة في هذا الشأن كثيرة جدا ولا يتسع المقام هنا لذكها لذلك فسوف اخصص مقال قادم بإذن الله في الحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

http://3akl-nakl.blogspot.com

هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

جزاك الله خيرا فبمثل فهمك أشعر أن الأمل موجود