الجمعة، 13 أغسطس 2010

حديث صلاة العصر وثقافة الاختلاف

من أكثر الأمراض التي ابتليت بها هذه الأمة في العصر الحديث هو غياب فقه الاختلاف أو ثقافة الاختلاف، فأي خلاف في الرأي يتحول بسهولة شديدة إلى اتهامات بعدم الفهم ثم الطعن ثم التخوين أو التكفير، وتكونت فئة من الناس مهمتهم التحدث بهذه الطريقة وتخطئة كل من يختلف معهم، هذا الأمر يسري في كل المجالات حاليا، السياسية والثقافية والدينية وحتى الرياضية، وهنا في هذا المقال احاول الاقتراب من الزاوية الدينية، ليس لمناقشة أمور مثل فتاوى الديليفري وخلافات من يدعون العلم على الفضائيات والصحف، ولكن لرؤية الأمور بنظرة أعمق ولفهم حقيقة فقه الاختلاف.


الكثير منا يردد مقولة الإمام الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" ولكن للأسف الكثير منا أيضا لا يفهمها بمعناها الصحيح، وعند أول خلاف في الرأي تجد التعصب للآراء والطعن.


لنلقي معا نظرة على هذا الحديث الشريف: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ) . فأدرك بعضهم العصر في الطريق ، فقال بعضهم : لا نصلي حتى نأتيها ، وقال بعضهم : بل نصلي ، ثم يرد منا ذلك . فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم .


لو قرأنا الحديث بتمعن فسوف نلاحظ هنا فئتين من الصحابة، الفئة الأولى أخذت بظاهر الكلام وفمهمته كما هو، وهو أن الرسول نهى عن صلاة العصر حتى الوصول لمكان بني قريظة، أما الفئة الثانية فقد فهمت المغزى من الحديث ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو حث من معه من المسلمين على الإسراع وإدراك صلاة العصر هناك، ولهذا فقد اجتهدوا في فهم الأمر وصلوا العصر في مخالفة لظاهر النص، ولنتأمل موقف الرسول الكريم، وهو أنه رأى الطرفين ومع ذلك لم ينكر على أحد منهم ما فعله، فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها وكل على قدر فهمه وفطنته، وهو بهذا يرسى قاعدة هامة وهي أن هناك مساحة للاختلاف في فهم وتطبيق بعض النصوص، وأن على الطرفين أن لا ينكر على الآخر ما فعله، وهذا هو الدرس الذي أرغب في استخلاصه من الحديث الشريف.


وتأكيدا لهذا المعنى اطرح مثالين لقضيتين تستهلكان وقتا وجهدا كبيرا من شباب الحركة الإسلامية، وسيظل الجدل قائما فيهما إلى يوم الدين.


القضية الأولى: قضية الحاجب والنقاب، فلا يخلو أي حديث بين الشباب في منتدى او موقع الكتروني أو حتى على أرض الواقع من هذه القضية وما يصاحبها من جدال طويل لا نخرج منه بأي شيء، فكل طرف يملك أدلته وقرائنه وعلى استعداد أن يتناقش فيهما إلى الأبد. ولقد كنت متفرجا دائما في هذه المناقشات وأحيانا كنت مشتركا فيها دون جدوى، وأحسب أن الخلاف الرئيسي فيها – برغم الأدلة الأخرى الكثيرة- هو في فهم الآية الكريمة "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" فمنهم من يرى أن "الضرب" بالخمار على الجيب يقتضي تغطية الوجه (وهذا نموذج في فهم ظاهر النص)، ومنهم من يرى أن مغزى الكلام هو تغطية الشعر والنحر والصدر ولكن لا يقتضي الأمر تغطية الوجه وأنه لو كان الوجه مقصودا لجاء الأمر صريحا بقول "على وجوههن" بدلا من "على جيوبهن".


القضية الثانية: هي مسألة تقصير الملابس للرجال، فهناك من أخذ بظاهر النص في الحديث "إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما أسفل الكعبين في النار" أو الحديث "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار" ، وطبقه على كل من الجلباب والسروال، وهنا من قال بأنه مقصور على الجلباب أو "الثوب"، ومنهم من فهم مغزى النص وقال أن الأمر متعلق بالخيلاء خاصة في بقية الحديث " ومن جر ثوبه من المخيلة لم ينظر الله إليه" والحديث " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة. قال أبو بكر: يا رسول الله، إن أحد شقي إزاري يسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لست ممن يصنعه خيلاء".


ليس في نيتي هنا الانتصار لوجهة نظر معينة ولكن القصد أننا نستهلك وقتا وجهدا كثيرين جدا في السجال والنقاش ثم الاتهام بعدم الفهم والتأويل ثم الطعن والتفسيق بعد ذلك، هذا الوقت وهذا الجهد يعطل مسيرة الحركة الإسلامية ويمنعها من التقدم والتطور، بينما يمكننا أن نفهم هذه النصوص كما فهمنا حديث بني قريظة، ونتصرف كما تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم. فقط انوه إلى نقطة هامة وهي أن فكرة فهم المغزى من النص هذه ليست للتعميم، وليس كل منا يستطيع أن يفهم هذا، وليس كل من تأول هو فاهم للنص، فحتى نفهم نصا ما فهما صحيحا فيجب أن نلم بكل تفاصيله وأحكامه وكل النصوص الأخرى التي تناولت القضية، ولا نحكم على طريقة "ويل للمصلين" دون أن نكمل "الذين هم عن صلاتهم ساهون"، فالاجتزاء من النص أو من القضية هو أكبر ضررا من فهمه بشكل حرفي.


للحديث بقية ولنا عودة إن شاء الله

الجمعة، 2 يوليو 2010

عن فتنة الاسراء والمعراج


كل عام في مثل هذا الوقت نستمع في المساجد لقصة حادثة الإسراء والمعراج، ونعرفها كلنا كبيرنا قبل صغيرنا، ولكن منذ فترة يراودني سؤال غريب، هو لماذا هذا التوقيت بالذات؟

قبل أن أجيب على السؤال يجب أن أذكر شيئا هاما، هو أننا لا نقرأ السيرة للتسلية وللاستماع لقصص من سبقونا، ولا نقرأها لاستخراج العبرة والعظة كما يقولون، فهذا موجود في كل حكايات التاريخ، بل الأهم هو أننا نقرأ السيرة لكي نستخرج منها المنهج الإلهي أو المنهج النبوي، المنهج الذي يكمن فيما بين السطور، وبقراءتنا ودراستنا يمكننا استخراج هذا المنهج الذي هو صالح للتطبيق في أي زمان ومكان، وهذا يجب أن يكون الهدف الحقيقي من قراءتنا للسيرة.

نعود لسؤالنا الأساسي، فإن كتب السيرة تحكي لنا ظروف حادثة الإسراء والمعراج وما مر به الرسول صلى الله عليه وسلم من وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها، ووفاة عم الرسول أبي طالب الذي كان أكبر داعم له في قضيته، ثم ما حدث في الطائف، وكلنا نعرف هذه القصص أو يمكننا معرفتها بسهولة، وتروي لنا كذلك كتب السيرة حادثة الإسراء والمعراج بوقائعها التفصيلية، وبأن الرسول قد أسري به إلى المسجد الأقصى وما لاقاه في طريقه، وتحكي لنا عن البراق، وعن وقائع غريبة وعجيبة تقع في نطاق الغيبيات التي لا يدركها العقل بمحدوديته في أمر العروج إلى السماء، واللقاء الذي حدث مع رب العزة تبارك وتعالى وانتهى بفرض الصلاة، والكثير من الاحداث الأخرى.

ما أرغب في تناوله في هذا المقال، هو الظروف المتعلقة بهذه الحادثة، ففي هذا الوقت كانت الدعوة تمر بمحنة كبيرة، وقد توفي أبو طالب عم الرسول وسنده وركنه الشديد (الداعم الخارجي)، وتوفيت السيدة خديجة التي كانت تدعم الرسول معنويا (الداعم الداخلي)، وكانت الدعوة في مهدها، وربما في أضعف حالاتها، وفي حاجة لضم أتباع جدد، ومع ذلك نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قد جاء قائلا أنه أسري به في ليلة واحدةإلى المسجد الأقصى، الذي كانوا يقطعون الطريق ذهابا إليه وأيابا منه في شهرين، ووصفه لهم في دقة شديدة، بل وزاد على ذلك بأن قال أنه عرج إلى السماء ورأى الملائكة والأنبياء بل والتقى برب العزة سبحانه وتعالى، وهو يعلم أنه سيلاقي من كفار مكة هجوما حادا، وعاصفة كبيرة من الاستهجان والسخرية، ووصل الأمر إلى أن ارتداد بعضا ممن آمن بالدعوة وعودتهم إلى معسكر الكفر.

وهنا يجب أن نقسم الأمر إلى مرحلتين، المرحلة الأولى هي مرحلة الإسراء، فمهما استغرب السامعين واندهشوا مما يسمعونه، ففي النهاية أن حادثة الإسراء كانت إلى مكان يعرفونه ويعرفون مواصفاته وكيفية الذهاب إليه، ويمكنهم مع الكثير من العسر فهم الأمر برغم غرابة وسيلة النقل (البراق) الذي لم يسمعوا عنه من قبل، وبرغم السرعة الرهيبة في الذهاب والعودة في أقل من ليلة، وكذلك بالنسبة للاتباع المؤمنين فيمكنهم تصديق الامر بكل سهولة، أما أن ننتقل إلى المرحلة الثانية التي فيها وصف كيفية المعراج والسماوات السبع ووصف الجنة والنار والملائكة بتفاصيل دقيقة، هذه المرحلة التي لا يمكن أن يراها إنسان أو يعرف مواصفاتها أو يستطيع الذهاب إليها، وفيها "مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"، وأن يكون المصدر الوحيد هو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، دون أي دليل مادي يدعم هذا الكلام، فتكون هذه المرحلة هي المرحلة الفاصلة في انتقاء الأتباع والمؤمنين الذين يؤمنون إيمانا مطلقا بكل ما جاء به الرسول وبكل ما سوف يجيء به مهما كانت غرابته أو بعده عن العقل،

النموذج المثالي في هذا الحدث هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فعندما أبلغ بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، كان رده فعله أن قال :" إن كان قال ذلك فقد صدق"، يعني إن كانت الرواية صحيحة وعن لسان الرسول حقا فأنا أصدق، هكذا وبدون أي تأويل أو تبرير أو التماس للأعذار،ولم يقل أبو بكر " لعله يقصد كذا أو كذا" ولم يناقش إن كان ما حدث أمر حسي أو معنوي.

وهنا يمكننا أن نستخلص الدروس من هذا الحادث:
- الدرس الاول هو: الاصطفاء، فالاصطفاء أمر ضروري في مراحل نمو الحركة الإسلامية، وأن قوة الأيمان بالفكرة هي معيار الاصطفاء، فما سوف تواجهه الحركة فيما بعد من محن وشدائد وفتن يحتاج نواة صلبة من الإيمان لا تنكسر أو حتى تخدش، وأفضل مثال تطبيقي لهذا الدرس الآية الكريمة: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، فهذه المجموعة المصطفاة تتعرض لمحنة شديدة في حصار المدينة ومع ذلك فان ما يقال لهم لتخويفهم هو ما يزيدهم إيمانا، طبعا هذه الآية تحتاج إلى مناقشة مستفيضة وربما أفرد لها مقالا مستقلا فيما بعد.
- الدرس الثاني هو: أن النظر إلى القوة العددية للحركة الإسلامية لا يجب أن يكون هو الهدف، وأن ضم الأتباع الجدد لا يكون على حساب الفكرة التي يتم الدعوة إليها، ولا يهم عدد المؤمنين ولا عدتهم، وأن مرحلة الاصطفاء والانتقاء تقلل من نسبة المنافقين، وقد سمعنا عن ظهور المنافقين في عند قيام الدولة ونهوضها وانضمام عدد كبير من الاتباع، وقد تخلف ما يقرب من ثلث الجيش الإسلامي في احدى الغزاوت بدعوى المنافقين، وقد قال فيهم الله تعالى "لَوْخَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ"، أي ان اندساس عناصر غير مؤمنة بالفكرة ومخلصة لها بين المؤمنين قد تؤدي إلى هدم الحركة بكاملها.
- الدرس الثالث هو الايمان المطلق بالأمور الغيبية والتي أخبرنا بها الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم دون تأويل، أو محاولة رد بعض ما يخالفه العقل، هذا الأيمان هو من ثوابت العقيدة لا غنى عنه، ولا يجوز التنازل عنه بأي حال من الأحوال، حتى لو أدى ذلك إلى نقصان عدد الأتباع، أو بمعنى آخر هو عدم تقديم أي تنازلات فيما يخص العقيدة، حتى لو أدى ذلك إلى ابتعاد البعض عن الإسلام.

الجمعة، 18 يونيو 2010

إلا المجاهرين

عن أبي هريرة: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول : يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا ، وقد بات يستره ربه ، ويصبح يكشف ستر الله عنه".

هناك حقيقتان يمكن ان نستخرجهما من الحديث الشريف، الأولى: أن الجهر بالمعصية أخطر من فعل المعصية ذاتها من الناحية الشرعية وأن من يكشف ستر الله عنه في معصيته ويجاهر بها هو شخص لا يستحق العفو والمغفرة، لأن المؤمن قد يعصي ربه ولكنه يسارع إلى طلب العفو والمغفرة كما في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"، ولكنه عندما لا يستغفر بل ويفخر بما فعله من المعاصي فهو لا يسحق العفو كما قلنا.
الحقية الثانية هي خطورة الجهر بالمعصية من الناحية الاجتماعية، فالجهر هنا ليس مجرد ارتكاب لمعصية قد لا تعني سوى مرتكبها، ولكنه هنا يدخل في جانب التحريض، وهذا يهدد كيان المجتمع.

وفي رأيي أن الحدود قد وضعت لمنع الجهر بالمعاصي والجرائم، فباستثناء السرقة والقتل وقذف المحصنات الذين يعدون اعتداء على حقوق الغير، نجد أن بقية الجرائم التي تستوجب الحد مثل الزنا وشرب الخمر ليس فيها اعتداء مباشرا على الآخرين، ولكنها تعتبر جريمة تستوجب الحد لأنها اعتداء على قيم المجتمع، فيمكن لشخص أن يشرب الخمر سرا دون أن يعلم أحد، وفي هذه الحالة لن يطبق عليه أي حد، كذلك جريمة الزنا لا تثبت إلا باعتراف الزاني أو بوجود أربعة شهود على الواقعة وهذا أمر يصعب حدوثه بدون مجاهرة، بل إن هناك الكثير من الاحاديث التي تدعو للستر على الشخص مرتكب المعصية وعدم فضحه (وإن كان زانيا)، ففي ستره حفظ لمشاعر واخلاق الآخرين، وكذلك فهي فرصه له ليتوب.

عن نعيم بن هزال: أن ماعزا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده أربع مرات فأمر برجمه وقال لهزال لو سترته بثوبك كان خيرا لك – حديث صحيح

عن عبد الله بن مسعود: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني عالجت امرأة من أقصى المدينة ، فأصبت منها ما دون أن أمسها ، فأنا هذا ، فأقم علي ما شئت ! فقال عمر : قد ستر الله عليك لو سترت على نفسك ، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ، فانطلق الرجل فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا ، فدعاه ، فتلا عليه : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } إلى آخر الآية ، فقال رجل من القوم : يا رسول الله ! أله خاصة أم للناس كافة : فقال : للناس كافة – سنن أبي داوود

عن عقبة بن عامر أنه أتى مسلمة بن مخلد وكان بينه وبين البواب شيء فسمع صوته فأذن له فقال إني لم آتك زائرا جئتك لحاجة أتذكر يوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من علم من أخيه سيئة فسترها ستر الله عليه يوم القيامة قال : نعم قال لهذا جئت – إسناده صحيح

وقد يظن البعض أنها دعوة للنفاق الاجتماعي بأن يرتكب الناس المعاصي في السر ثم يخرجون إلى المجتمع ببراءة، ولكن هذا غير صحيح، فالستر بداهة مرتبط بالنصيحة، والغاية من الستر هو ترك الباب مفتوحا للتوبة، ولكن أن يجاهر الفرد بذنبه فهذا معناه أنه لا يرغب في التوبة بل ويفخر بذنبه، إضافة أن هذا يشكل اعتداء على حقوق المجتمع وقيمه وثوابته وهو ما لا يسمح به أي نظام في العالم، وقد قال تعالى: " إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (المائدة: 34).

هناك نقطة مهمة جدا وهي أن الستر يكون في الذنوب الفردية التي ليس فيها تعد على حقوق الآخرين، فلا يجوز مثلا التستر على سارق أو قاتل، بل يمكن القول إن عقوبة الحرابة قد غلظت لأن فيها تحد ومجاهرة، وقد قال تعالى:" إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (المائدة: 33)، ونلاحظ بالطبع تشديد الحرف الأوسط في الكلمات :(يقتلوا- يصلبوا- تقطع) وهي في اللغة تعني التغليظ والتشديد.

وقد ذهب البعض إلى ابعد من ذلك بأن قالوا أن قتل المرتد يكون عندما يجهر بردته ويعلن عدائه للإسلام فقط، لأنه في هذه الحالة يكون قد ارتكب جريمة الخيانة العظمى، وأنه في حالة عدم الجهر بردته فلا حد عليه.

والحق أن الإسلام ليس به مراقبة على سلوك الأفراد ومحاسبتهم إلا فيما يضر بالمجتمع، فلا يوجد من يسجل عليك عدد مرات صلاتك في المسجد بل إذا كنت تاركا للصلاة فربما لن يعرف أحد، ولا يجد من يراقب عليك صيامك، ولكن في المقابل يجب أن يتم التعامل مع المجاهرين بالافطار لأنهم يتحدون ثوابت المجتمع ويشكلون تهديدا لثقافته واخلاقياته وهذا هو معيار الحكم في رأيي، فأي تصرف يهاجم أو يتحدى الثوابت الإسلامية يجب أن يتم التعامل معه من قبل الدولة الإسلامية.

ولهذا قد شرعت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان ثواب العمل بها عظيما وثواب تركها عظيما أيضا، والآيات والأحاديث الواردة في هذا الشأن كثيرة جدا ولا يتسع المقام هنا لذكها لذلك فسوف اخصص مقال قادم بإذن الله في الحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

http://3akl-nakl.blogspot.com